تأثير الأزمات الجيوسياسية على تطبيق المعيار الدولي للتقرير المالي 9 (IFRS 9):
قراءة تحليلية في ظل الصراع الإيراني-الإسرائيلي
مقدمة
في أوقات الأزمات، تُختبر ليس فقط قدرة الاقتصادات على الصمود، بل أيضًا مدى مرونة الأطر المحاسبية في الاستجابة للواقع المتغير. الحرب الإيرانية-الإسرائيلية، بما تمثله من تصعيد إقليمي خطير، تسلط الضوء على سؤال بالغ الأهمية: كيف تتعامل المعايير المحاسبية، وتحديدًا IFRS 9، مع واقع تقوده المتغيرات السياسية أكثر من المؤشرات الاقتصادية؟
- الخسائر الائتمانية المتوقعة: هل يمكن التنبؤ بالمجهول؟
نموذج الخسائر الائتمانية المتوقعة (ECL)، الذي يشكل حجر الزاوية في IFRS 9، يفترض القدرة على استشراف المستقبل بناءً على بيانات تاريخية ومنهجيات إحصائية. لكن ماذا يحدث عندما لا يكون المستقبل امتدادًا للماضي، بل انقلابًا عليه؟
في سياق النزاع الإيراني-الإسرائيلي، أصبحت البيانات التاريخية غير صالحة، والنماذج التقليدية عاجزة عن التقاط الصدمات السياسية المفاجئة. وبالتالي، تواجه البنوك والمؤسسات المالية تحديًا في إعادة تصميم نماذج ECL لتستوعب سيناريوهات جيوسياسية، لا اقتصادية فقط.
على سبيل المثال، قد تُصبح شركة كانت تتمتع بتصنيف ائتماني جيد في خطر التخلف عن السداد، فقط لأن أحد فروعها يقع في منطقة نزاع عسكري.
- القيمة العادلة في أسواق لا تتسم بالعدالة
من المبادئ الأساسية في IFRS أن القيمة العادلة تعكس السعر في “معاملة منظمة بين أطراف مطلعة وراغبة”. ولكن في زمن الحرب، لا السوق منظم، ولا الأطراف مطلعة، ولا الرغبة موجودة.
في الواقع، تتحول الأسواق المالية إلى مساحات من القلق، حيث تنكمش السيولة، وتتصاعد الفجوة بين أسعار العرض والطلب، ويغيب المرجع الحقيقي للتسعير. وهو ما يُجبر المحاسبين على اللجوء إلى المستوى الثالث من مدخلات القيمة العادلة، المعتمد على التقدير الشخصي والنمذجة غير الملاحظة.
في مثل هذه الحالات، يصبح التقييم فنًا بقدر ما هو علمًا، ويزداد خطر التحيز والتقلبات اللاحقة.
- التصنيف وإعادة التصنيف: عندما يتغير نموذج الأعمال دون إنذار
يفترض IFRS 9 أن المؤسسات تمتلك نماذج أعمال مستقرة تمكنها من تصنيف أدواتها المالية بشكل يعكس نواياها التجارية. لكن ماذا إذا تغير النموذج نفسه بفعل أزمة سياسية؟
على سبيل المثال، قد تتحول مؤسسة مالية من استراتيجية “الاحتفاظ حتى الاستحقاق” إلى البيع المبكر بسبب الحاجة المفاجئة للسيولة، ما يتطلب إعادة تصنيف أصولها المالية.
هنا تظهر مشكلة الإفصاح والنية: هل التغيير حقيقي؟ أم هو مؤقت؟ ومتى يجب أن تعترف المنشأة به محاسبيًا؟
- الاستمرارية والافتراضات التي لم تعد صالحة
أحد أخطر التحديات المحاسبية في بيئة الصراع هو اختبار فرضية الاستمرارية.
منشآت قائمة منذ عقود قد تجد نفسها فجأة غير قادرة على الاستمرار بسبب قطع الإمدادات، أو العقوبات، أو المخاطر الأمنية.
على سبيل المثال، شركة لوجستية في ميناء استراتيجي قد تصبح بلا عمل بين عشية وضحاها إذا تحوّل الميناء إلى منطقة عسكرية.
في هذه الحالات، يجب على المحاسب أن يُبلغ بجرأة عن وجود شكوك جوهرية تؤثر على استمرارية المنشأة، وهو قرار ليس فقط مهنيًا، بل إنسانيًا أيضًا، إذ يؤثر على الموظفين، والموردين، والمستثمرين.
- التوصيات: موازنة بين الشفافية والواقعية
في خضم هذه التحديات، نوصي بما يلي:
- دمج السيناريوهات الجيوسياسية في النماذج المالية، ليس كتحديث تقني، بل كجزء من الثقافة المؤسسية لإدارة المخاطر.
- تعزيز الحوار بين الأقسام المحاسبية، والمالية، وإدارة المخاطر، لتوحيد فهم تأثير الأزمة.
- الإفصاح بشجاعة، حتى عندما تكون الصورة غير واضحة. فالمستخدم المالي لا يطلب اليقين، بل الصدق والشفافية.
الخاتمة: عندما تتحدى السياسة المنهج المحاسبي
IFRS 9 لم يُكتب ليتعامل مع الحرب، لكنه كُتب ليكون مرنًا بما يكفي ليواجهها.
وهنا تبرز مسؤولية المحاسب ليس كمجرد موثق للوقائع، بل كمترجم لواقع مضطرب إلى لغة مفهومة للمستثمرين وصناع القرار.
وإذا كان الاقتصاد يتأثر بالحرب، فإن المحاسبة تتحمل مسؤولية رواية هذا التأثير بدقة وإنصاف.